التاريخ هو مراية الحاضر واساسه ، فالحضارات القديمة الأولى هي تعكس الماضي الذي بناه اجدادنا والتطور الذي كانوا فيه ، ولو عدنا الى التاريخ القديم ودرسنا اشهر واعظم الحضارات لوجدنا بأن حضارة ما بين النهرين هي الاقدم والاعرق والاكثر تأثرا على البشرية حتى يومنا هذا ، فهذه الحضارة المدنية وصلت الى اعلى درجات الرقي والتقدم في كل المجالات ،فعلى ضفتي نهري دجلة والفرات بنيت اعظم المدن في التاريخ / سومر ـ أكاد ـ بابل ـ نينوى ـ آشور ـ أور / وغيرها ، ومنها ظهرت اولى الكتابات باللغة المسمارية ودونت الاساطير على الالواح الحجرية ، وسنت اولى القوانين / قانون حمورابي / وتم دراسة علم الفلك ورصد النجوم ، ووضعت اولى المسائل الهندسية ، وبنت السدود على الانهار ، واشتهرت بفن النحت والعمار ، وكانت اعظم امبراطورية عسكرية امتدت سيطرتها من مابين النهرين الى مصر وتخوم الصين ، ونشرت المدنية والعلم والمعرفة في كل ارجاء العالم .
لقد كانت حضارة ما بين النهرين في مراحلها التاريخية والتي استمرت اكثر من ثلاثة الآف سنة حضارة واحدة غير متجزأة ، فرغم تعدد التسميات التي جائت نسبة لتغيير الحكم من سيطرة الى اخرة، فالتسميات / سومري ـ آكادي ـ بابلي ـ أشوري ـ كلداني / فالسومريون سميوا نسبة لمدينة سومر ، والآكاديون نسبة لمدينة آكاد ، والبابليون نسبة لمدينة بابل ، والأشوريون نسبة لمدينة آشور ،وعندما سيطر الكلدانيون على الحكم كانت بابل هي عاصمتهم ، اذا رغم تغيير الحكم من مدينة الى اخرة فالشعب هو نفسه والحضارة هي امتداد لهذا الشعب الذي بنى حضارة بدأت منذ حوالي سنة 3200 ق.م. الى سنة 539 ق.م . واصدائها وتأثيرها مستمر على البشرية حتى يومنا هذا .
المعتقدات عند شعب ما بين النهرين
ـ ككل شعب بدائي قدس شعب ما بين النهرين مظاهر الطبيعة ، فعبدوا القوى الكامنة
ورائها ، كحرارة الشمس او قوة المياه او الطوفان احيانا ( ملحمة كلكامش )
وعنها اخذت قصة الطوفان ايام نوح .
فكان طبيعي في بلاد خصبة ان يؤله الخصب في الدرجة
الاولى .
ولقد احتفظ سكان مابين النهرين في المراحل التاريخية بآلهتهم ، فنرى البابليون
يحتفظون بآلهة سومر وآكاد ولكنهم جعلوا (مردوخ ) اله بابل في مقدمة آلهتهم ،
والآشوريون جعلوا (آشور ) في المقدمة وكانت الالهة (عشتار) ملازمة له .
ولقد تعددت الآلهة بتعدد المدن ـ (انو) اله السماء (انليل ) اله الارض (ايا)
اله المياه الجوفية (شمش ) اله الشمس (سين) اله القمر (ادد) اله الطبيعة ،
واضافت كل دولة اله خاص بها ، مثل (مردوخ)(آشور)(عشتار)(نبو).
وفي المرتبة الثانية : كرم سكان ما بين النهرين انصاف الآلهة مثل :( كلكامش ).
فنون النحت والعمار
ـ في مجال النحت اهتم الفنانون في بلاد ما بين النهرين في ابراز معالم الوجه
وتقاسيمه ، فأتى التمثال مطابقا لاوصاف صاحبه ، فبرع السومريون بالحفر والتطعيم
بالعاج ، واتقنوا صناعة الخزف ، ولقد اختلفت الاشكال في المراحل التاريخية في
ما بين النهرين ، فالشكل المحبب لدى السومريون لم يظهر في التماثيل البابلية ،
وجسد الآشوريون في نماذجهم كل ما يمثل القوة ، كالاسد والثيران المجنحة ،
واللبوة الجريحة ، حتى ان الملك يمثلونه دائما اثناء الحرب او الصيد ، ويبرز
فنانوهم تفاصيل الوجه والعضلات المفتولة للدلالة على القوة ، بينما يسترون بقية
الجسم برداء فضفاض ، ومن هذه الفنون الآشورية قبس الفرس فيما بعد اشكال
تماثيلهم .
وفي فن العمارة، اعتمد البنائون على الطين المجفف او اللبن ، وكلاهما اصل صناعة
الآجر فشووا الحجارة في الافران حتى غدت قاسية ، ومن اهم اشكال العمارة
واشهرها: قصر (خورساباد) في نينوى عاصمة الآشوريون ، وقصر بابل في العهد
الكلداني ، وقصر نبوخذنصر ، وبرج بابل بجنائنه المعلقة ، ومن الابنية الدينية
وعرفت بالمعبد باسم (الزاقورة) .
الفكر والعلوم
ـ خلفت حضارة ما بين النهرين الكثير من الآثار الفكرية ، وحفظ معظمها في مكتبة
آشور بانيبال ، وتقدموا في العلم فتركوا منجزات لا نزال نقرها في حياتنا
اليومية ، وعبرت عن آدابها بالعديد من الاساطير والملاحم .
فالسومريون دونوا افكارهم فوضعوا اسس الكتابة وطورها الاكاديون من بعدهم وعرفت
بالكتابة المسمارية .
وكتبت الاعمال الادبية والتي تناولت الرثاء بشكل اناشيد .
ولقد كان التشريع والقانون من اهم هذه الآثار التي اهتموا بها واهم ذلك (قانون
حمورابي) فجمع 282 مادة تشريعية ، وتبنى هذه القوانين الآشوريون ليصبح قانون
الدولة الرسمي .
التقويم
ـ انبثق معرفة سكان ما بين النهرين بمعرفة التقويم بألمامهم بالتنجيم .
ويبدأ العام في الربيع ببداية نيسان ، فترة انتعاش الطبيعة ، وقسمت السنة الى
فصلين ، ويبدأ احدهما في نيسان والثاني في (تشريت ) (تشرين الاول ) .
الفصل الاول : نيسان :(آذار ـ نيسان ) ايار : (نيسان ـ ايار) سيوان : (ايار ـ
حزيران) تموز : ( حزيران ـ تموز ) آب : (تموز ـ آب ) ألول (أب ـ ايلول) .
الفصل الثاني : تشريت : (ايلول ـ تشرين الثاني) حسامنا : (تشرين الاول ـ تشرين
الثاني) كسيمو : (تشرين الثاني ـ كانون الاول ) تابت : (كانون الاول ـ كانون
الثاني ) شباط : (كانون الثاني ـ شباط) آذار : (شباط ـ آذار ) .
الاعداد والمقاييس
ـ لقد تم تطوير العد ونظام العد الرقمي ، بحيث يتم العد الى الستون ، ويظهر
اعتماد النظام الستيني في تقسيم الساعة الى ستين دقيقة ، والدقيقة الى ستين
ثانية ، كذلك المثقال يساوي ستين وزنة ، والوزنة ستين حبة ، (والشكلو) (180)
حبة ، وجاء مكملا للنظام الاثني عشري ، لا ناقصا له ، كقسمة اليوم الى اثني
عشرة فترة (مدة كل منها ساعتان) والاعداد الى دزينات (12 وحدة) وكل خمس دزينات
تساوي العدد ستين ، ونحن اليوم اذ نشتري (بالرطل) (12 اوقية) انما نطبق هذا
النظام الذي كان يطبقه سكان ما بين النهرين منذ اكثر من 5300 سنة!
الطب
ـ كانت مهنة الطب مرادفة في اغلب الاحيان لكهنة المعابد ، وكانت معلوماتهم
اولية ، ومن اجل تنظيم مهنة الطب فلقد وضعت شروط قاسية لمن يمتهنها بحيث كان
يعاقب كل طبيب يخطئ بالوصفة او يجري عملية تودي بحياة المريض ، ولقد نظم الملك
حمورابي قانون مهنة الطب ، ولقد اقتبس الآشوريون الوسائل العلمية الفرعونية ،
وفصلوا بين المفهومين الديني والعلمي ، وغدا للطب مهنة مستقلة وقربهم الملوك
منهم نظرا للحاجة لهم .
المجتمع والجيش
ـ كان الملك هو رأس المجتمع ، وصاحب السلطة الزمنية ويمثل الاله على الارض ،
دون ان يتخذ وصفة الألوهية ، وينقسم المجتمع الى ثلاثة طبقات :
1 ـ الاحرار: وقد اعتبرهم حمورابي العنصر الرئيسي ، والعائلة لديهم نواة
المجتمع ، وتأسيس العائلة يمر بنفس المراحل التي نعرفها اليوم ، كالخطوبة تسبق
الزواج والانجاب غاية الزواج .
2 ـ المساكين : (مشكينو) اي الفقراء وحياتهم اليومية هي العمل المستمر في
الحقول والري والعناية بالاقنية ، فيعتنون عادة باراضي الملك او المعبد او
الاقطاعي .
3 ـ العبيد : وهم الطبقة الدنيا والأخيرة ، وهم ملك لاسيادهم ، ووصلوا الى هذا
الامر اما عن طريق الاسر في الحروب او البيع ، ولقد انيط بهم تنفيذ الاعمال
الشاقة والمهن الوضيعة .
ـ الكهنة: تميز الكهنة بسلطة قوية ايام السومريون ، فالملك السومري هو الكاهن
في الوقت ذاته ، واخذت سلطة رجال الدين تتضاعف ، نتيجة لاعتقاد الناس بالسحر
والتنجيم والطلاسم ، واصبحت استشارتهم واجبا في حال انتقال الحكم من السلف الى
الخلف ، وهذا لم يمنع من الاعتراف بالملك كاهنا اعلى ، دون ان تكون له صفة
الهية ، وتضم حاشيته عددا كبيرا من كهنة البلاط ، وفي مرتبةادنى كهنة المعابد
ولهم مرتبة معنوية لانهم ربطوا بين الطب والدين ويفسرون مشيئة الآلهة في اختيار
العرش وفي تأدية النصح اذا كانت الظروف ملائمة للحرب .
ـ الكتبة والموظفون:
يؤخذ الكتبة من بين الكهنة ، ومن بين الكتبة يؤخذ الموظفون الكبار ، ومع اتساع
رقعة الامبراطورية اشتدت الحاجة الى الموظفين ، ونشط التراسل العاصمة
والمقاطعات ، وانتشرت الكتابة المسمارية خارج بلاد الرافدين ، وبلغ عدد
الموظفين في ايام حمورابي عشرات الآلاف ، اما الآشوريون فقد اختصروا المعاملات
الادارية وبسطوها ، لان الحكم عسكري والمعاملات الادارية تناط بالجيش .
ـ الجيش :
لم يتطور الجيش الا مع الآشوريون وفي هذا الوقت وصلت الفتوحات الى البحر
المتوسط ، واتسعت امبراطورية ما بين النهرين لتكون الاكبر والاقوى ، وكان يرأس
الجيش الملك نفسه ، او قائد من قبله يدعى (تورتان)
الاختصاصات في الجيش :
1 ـ المشاة :
عددهم وفير سلاحهم القسي والحراب والسيوف يتقون الطعن بالخوذة والدروع ، يجهزون
القوارب ليجتازوا الانهار وهذا ما يتيح السرعة في الحركة والمناورة ويعزز عنصر
المباغتة .
2 ـ الخيالة :
وهي فرقة مستحدثة لدى الآشوريون ، اعتمادها على سرعة الهجوم والالتفاف تكتفي
بما خف من السلاح .
3 ـ الهندسة :
وتبرز مهمتها في حرب الحصار ، مجهزة بسلالم لتسلق الاسوار وبمدكات ضخمة لتحطيم
ابواب القلاع والحصون ، يلبس افرادها الدروع كحاجز وقائي ، ولهذه الفرقة مهمتها
ايام السلم ايضا فهي التي تمهد الطرقات وتبني الجسور .
4 ـ المركبات :
ويجر المركبةجوادان او ثلاثة ، فعاليتها في الصدام مع العدو وهو سلاح مصمم
للهجوم واقتحام الصفوف ، يقف فيه جنديان احدهم يقود والثاني يرمي السهام.
5 ـ البحرية:
اعتمد الآشوريون على الفينيقيون في انشاء اسطول حربي لكثرة الخشب في جبل لبنان
، والسفن المعدة للصدام مقدمتها دقيقة ومنخفضة وظيفتها اختراق سفن العدو ، اما
ما كان منها مخصصا لنقل الجنود والاعتدة فله مقدمة عالية تمثل رأس حيوان .
وضع شعب بلاد الرافدين خلال فترة ما بين سقوط بابل وقدوم المسيحية:
إن الفترة التاريخية ما بين سقوط بابل ونينوى وقدوم المسيحية هي فترة مضطربة وغير واضحة المعالم تقريبا لكونها فترات حروب وتناطح السلطات الأجنبية فيما بينها للاستيلاء على منطقة الرافدين الاستراتيجية، وفترة ثورات وتمردات من السكان الأصليين، فبعد سقوط نينوى فر عشر من قواد الجيش ببعض فرقهم إلى أطراف المملكة "منطقة الرها"وشكلوا هناك مملكة عسرايا أي مملكة القواد العشر، ويذكر التاريخ أن هذه المملكة الصغيرة تحالفت مرات عديدة مع الفراعنة من اجل استعادة نينوى سلطة بلاد الرافدين من الفرس، كما قامت عدة ثورات في بلاد الرافدين إلا أنها فشلت، وقد بقي بعض ملوكها حتى عهد السيد المسيح، ومنهم ابجر الخامس الذي يقال انه راسل السيد المسيح وطلب منه أن يسكن في مدينته.
فبعد سقوط بابل بيد كورش لم يحاول كورش أن يحنث بوعده للكهنة، فترك لهم حرية ممارسة الشعائر الدينية والعبادة واحترم آلهتهم فكان أن ضمن خضوع الكهنة له خضوعا كاملا وكان يحصل على جميع الضرائب بسهولة من خلالهم، إلا أن فترة حكم الفرس للرافدين لم تدم طويلا، إذ أن مطامع أوروبا من تلك الفترة كانت تتجه إلى الشرق، فكانت حروب الاسكندر المكدوني واحتلال بلاد الرافدين بالكامل وسقوط داريوس صريعا في إحدى الحروب قرب اربيل الحالية عام332 ق.م نهاية للوجود الفارسي في بلاد الرافدين لفترة طويلة استمر خلالها حكم اليونان لهذه المنطقة.
وبما أن بقايا رعايا الدولة الآشورية كانوا يملئون هذه البلاد فكان أن أطلق تسمية Assyrian على الشعب القاطن في بلاد الرافدين لعدم وجود حرف الشين في اللغة اليونانية، وحرف الشين في اللغات الأوروبية الحديثة مركب من حرفين هما "c-h" تمييزا له عن غيره فعمت هذه التسمية على جميع الفئات دون تمييز بين فئة وأخرى أي بين ساكني مناطق بابل أو نينوى أو الجبال العالية، فأصبحت تسمية حكومية عامة لجميع سكان بلاد الرافدين، وقام سكان الرافدين بترجمتها إلى لغتهم الآرامية باسم "ܣܘܪܝܝܐ" وذلك بسبب عدم وجود أل التعريف في بداية أسماء الأعلام لهذه اللغة، فعمت تسمية سريويه أو سريايا على جميع سكان بلاد الرافدين دون تمييز "لان عادة حذف الهمزة من أول الاسم معهودة عند العرب والسريان واليونان كما تبين فقد تحول الاسم إلى سريان من آسريان ومنذ فجر النصرانية اعتاد السريان بل اتخذوا لفظة سوريا الموجزة للمعنى الديني ولفظة سوريايا للمعنى الوطني".
وقد تطورت لغتهم أيضا تطورا كبيرا خلال هذه الفترة من حيث النحو والتطبيق والصرف وعرفت بالسريانية "ܠܫܢܐ ܣܘܪܝܝܐ" نسبة إلى التسمية التي اتخذها الشعب بالكامل.
وبعد موت الاسكندر المقدوني وانقسام الإمبراطورية المكدونية إلى قسمين كان نصيب سكان الرافدين ضمن سلطة السوقيين خلفاء "الاسكندر المقدوني"إلى أن جاء الكاشيون عام 250ق.م وأسسوا ممالك مستقلة في المدائن وغيرها إلى أن قويت شوكة ملوك الفرس من جديد.
فانقض اردشير بن بابك في جيوش جرارة على سهول ما بين النهرين وارزون وبازبدي وبابل وظفر بارطبان آخر ملوك الفرثيين ونصب كرسيه في المدائن".
وان التواريخ التي تبحث في حياة السريان وواقعهم الاجتماعي نادرة جدا حتى بدء الديانة المسيحية بالانتشار في هذه المنطقة أي في القرن الأول الميلادي، عندئذ بدا بتأريخ حوادث السريان المسيحيين في الأديرة والكنائس على الأغلب، "ولم يبق لنا من أدب هذه الفترة كتابات مدونة إلا القليل جدا واغلبها كان في الرها لكونها مملكة مستقلة واهم هذه المدونات كتابات بعض القبور وتأريخ فيضان نهر ديصان وما نتج عنه ثم رسالة مارا بن سارابيون من السجن إلى ابنه وهي رسالة أدبية وجملة نصائح يقدمها إلى ابنه.
ـ اعتناق السريان إلى الديانة المسيحية حتى الانشقاقات المذهبية:
يقول التاريخ أن منطقة بلاد الرافدين وسكانها السريان عرفوا المسيحية منذ القرن الأول الميلادي أو بداية القرن الثاني قبل الميلاد حيث يذكر المؤلف مشيخا زخا صاحب تاريخ اربيل يخبرنا في تاريخه "مما يؤيد أن السريان اعتنقوا المسيحية منذ عهدها الأول، "ويرد ذكر الآشوريين كأوائل الناس الذين اعتنقوا المسيحية على يد مار ماري ومار ادي في القرن الأول للميلاد إلى كرخا دبيث سلوخ، كركوك في شمال العراق".
كان للاضطهاد والمضايقات التي لاقاها أحفاد الدولة الآشورية دور كبير في البحث عن وسيلة للاحتجاج ضد الظلم الاجتماعي الذي كان يمارس بحقهم من قبل الروم والفرس الذين كانوا يتقاسمون بلاد الرافدين، فكان قدوم المسيحية خير وسيلة لذلك، لذا انضوى جميع السريان المنحدرين من أصول الحضارة الآشورية البابلية تحت لواء المسيحية، ولأول مرة توحد أحفاد الدولة الآشورية منذ سقوط سلطتهم السياسية عام 539 ق.م وان كان اتحادهم هذا تحت صفة دينية، فاصبح للسريان الآشوريين قيادة واحدة يخضع لها الجميع دينيا ويطيعونها مدنيا فكانت هذه القيادة بمثابة إدارة دينية اجتماعية متكاملة.
وقد كان لانتشار المسيحية بين اتباع الإمبراطورية الرومانية ويأس الإمبراطور الروماني من اضطهاد المسيحيين ضمن سلطته وبعد أن كثر عددهم وازداد بشكل مخيف، أعلن الإمبراطور الروماني اعتناقه للمسيحية، وبذلك ضمن الولاء الكامل لاتباع إمبراطوريته وخضوع ومساعدة الكهنة لأوامره، فكان لهذا القرار تأثيرا سلبيا على السريان القاطنين ضمن فارس حيث ذاقوا الأمرين، لان الفرس اعتبروا السريان أحفاد الآشوريين القاطنين ضمن سلطتهم عملاء روما لاتفاقهم في عقيدة دينية واحدة مع الرومان، وان كانت هناك خلافات و تمردات دينية في بعض المناطق أدت إلى بعض الانشقاقات الدينية أحيانا.
وقد تخوف الرومان في الفترة الأخيرة من الإدارة الواحدة للسريان في بلاد الرافدين من ظهور قادة سياسيين يغتنمون فرص معينة لإعادة أمجاد أجدادهم الآشوريين والبابليين، وخوفا من ضياع هذه البلاد من أيديهم وللأبد.
لذا فقد سعى القادة الرومان إلى تفتيت شملهم وبأية وسيلة كانت وضربهم بعضهم ببعض، وحين أدركوا أن الإدارة الدينية وحدتهم فقد أدركوا انه لا يمكن تفريقهم إلا من خلال هذه الإدارة نفسها، وبالأخص وان شعب الرافدين هو شعب متدين منذ اقدم العصور، فبدؤوا بمحاولة الاستفادة من خلافات بعض رجال الدين لخلق تفسيرات دينية لمعاني الكتاب المقدس وقام الأباطرة الرومان برعاية المجامع الدينية وتوجيهها حسبما تقتضي رغباتهم، فحدث الشقاق الديني المشهور في تاريخ الكنيسة السريانية عندما قدم نسطور أفكارا جديدة انعقد على آثرها مجمع مسكوني أدى إلى تحريم نسطور واتباعه وقام نسطور أيضا من جانبه بتحريمهم "الحرومات المتبادلة بين نسطور وكريلس"، وذكر مار رابولا الرهاوي في رسالته إلى مار كريلس الإسكندري إن أسقفا من قيليقية قال أن العذراء مريم ليست والدة الإله فتبناها نسطور.
وكان لهذا الشقاق وهذه الحرومات دور كبير في تمزيق شمل وحدة السريان إلى عدة مذاهب متفرقة بل متفرقة بل متآمرة بعضها ضد بعض فقد طرد الإمبراطور زينون عام 439 م اتباع نسطور من البلاد الواقعة تحت سلطتهم فلجا هؤلاء إلى فارس واستطاع بار صوما أن يقنع فيروز بأنهم هجروا الإمبراطورية البيزنطية لسوء المعاملة التي لاقوها، ولذا رحبت بهم فارس ورأت فيهم فرصة حيدة لإنشاء جواسيس من هذه المذهب ضمن الإمبراطورية الرومانية هكذا فعل الرومان أيضا فانقسم السريان إلى شرقيين مركزهم ضمن السلطة الفارسية "واعتبر فيروز النسطورية دينا لجميع الآشوريين واخذ مؤيدو نسطور يجبرون الآشوريين بالنار والحديد على تقبل تعاليم نسطور".
"وغربيين يتواجد اغلبهم ضمن سلطة الروم وتحول بعض رجال الدين من اتباع كلا المذهبين إلى مثابة جواسيس وعملاء لكلا السلطتين ضد أبناء قومهم من أصحاب المذاهب المخالفة لهم "،وقد بقيت أحوال أبناء الكنيسة السريانية على هذه الحال بين مد وجزر، "كما لاقى بعدئذ أيضا أصحاب الطبيعة الواحدة (اليعاقبة) اضطهادا من قبل الإمبراطور يوسطينيوس الأول عام518م وكنيسة الدولة ولكنهم لم يهجروا الإمبراطورية البيزنطية وبقوا فبها كتلة ساخطة اشد السخط".
وقد أبدع السريان خلال فترة القرون الأولى للمسيحية أدبا لاهوتيا وفلسفيا رائعا، فقد بدأه طاطيان المولود في بلاد اشور في أوائل القرن الثاني للميلاد /بالدياطسرون/ وهي ترجمة الأناجيل الأربعة بالسريانية مضمونها وما أضافه عليها ثم تلاه مليطون السرديني وبرديصان ومدرسته بنهاية القرن الثاني وبداية القرن الثالث، وقد برز من اشهر المؤرخين وكتاب السريان في القرنين الثالث والرابع "مار افرام السرياني"،الذي خلف مجموعة ضخمة من الأعمال الأدبية والدينية والفلسفية والتاريخية من شعر ونثر، وقد أرّخ حوادث حصار نصيبين من قبل الفرس شعرا من عام 350-370م كما كان قد أقام أكاديمية في نصيبين ثم هجرها إلى الرها بعد أن استولى عليها الفرس وأسس هناك أكاديمية أخرى، ويبلغ ما تركه مار افرام من اثر ثلاثة ملايين من الأسطر شملت مختلف نواحي الحياة.
وأثناء الانشقاقات المذهبية قدم السريان أدبا رائعا في جميع مناحي الحياة وبالأخص خلال المجادلات الدينية التي جرت بين النساطرة واليعاقبة، وقد كان للمدارس التي انشاوها في كل من نصيبين والرها وجنديسابور وقنسرين، دور كبير في نبوغ الادباء والعلماء الكبار مثل يعقوب النصيبيني وبار صوما ونرسي ويعقوب البرادعي، ومن العلماء سرجيس الرأس عيني وغيره، ومن كتاب التاريخ يشوع العموني وتاريخ الرها للمؤلف المجهول ويوحنا الافسسي وزكريا المدلل فان كان الانشقاق الديني قد خلق هوة عميقة بين أبناء السريان عجز الزمن حتى الآن من محو آثارها السلبية وكانت سببا في شتاتهم وتمزقهم، فإنها أبدعت أذهانهم بروائع الأدب الفكري والاجتماعي شغلوا به الشرق بالكامل اكثر من ثمانية قرون متتالية، وقد التحقت فيما بعد قسم آخر من السريان بكرسي الكنيسة البيزنطية وعرفوا بالسريان الملكيين ومن ثم بالروم الكاثوليك، وقد تناسوا اللغة السريانية والارتباط بالتاريخ نهائيا في الوقت الحاضر تقريبا.
ـ خضوع بلاد الرافدين للدولة العربية الإسلامية:
كان للصراع الدائر بين الروم والفرس تأثير سلبي كبير على الحياة الاجتماعية وحياة الاستقرار للسريان المنحدرين من أصول الحضارة الآشورية البابلية، فقد ساهمت هذه الحروب التي استمرت عدة قرون في تحطيم حياة الاستقرار وخلق البلبلة والفوضى في حياتهم لكونهم كانوا يقطنون بوسط المعارك، فمدينة نصيبين كانت حدودا فاصلة بين الدولتين، وهذا ما أدى إلى كره السريان ويأسهم من كلتا الدولتين، فكانوا يطمحون إلى التخلص من هذا الاستبداد بأية وسيلة كانت، لذا عندما جاءت الجيوش العربية الإسلامية عام637 م إلى بلاد الرافدين رحب بها السريان الشرقيين منهم والغربيين أملا في التخلص من واقع الظلم والاستبداد الذي ذاقوه من قبل الفرس والروم مئات السنين، وقد حصلوا فعلا على عهود بالأمان من قادة جيوش المسلمين ومن الخلفاء.
"وقد انضم بعدئذ قسم من السريان المسيحيين إلى الديانة الإسلامية الجديدة منذ بداية وصولها مثل"الطي، والتكارتة، في جنوب بلاد الرافدين، بعضهم طمعا في المغانم التي يحصل عليها المسلم من الحروب، وبعضهم الآخر تهربا من تصرفات بعض رجال الدين ومما لاقوه على أيديهم من ويلات، وبعضهم بسبب عجزهم عن دفع الجزية التي كانت تفرض على غير المسلمين كضريبة حماية".
وهناك بعض أحفاد الآشوريين البابليين الذين حافظوا على معتقداتهم الدينية القديمة ولم يدخلوا المسيحية ولا الإسلام وهم الصابئة أو المندويين القاطنين في جنوب الرافدين وقد اتصل السريان الشرقيين بالرسول العربي من اجل التعاون على طرد الروم والفرس من بلادهم "ولما اشتهر أمر النبي محمد ودعوته راسله بطريرك السريان النساطرة /ايشوع هيب الثاني الجدلاني/ بغية التفاهم على طرد الروم والفرس من بلاد السريان.
وقد أثار المستشرق لوك في كتابه "الموصل وأقلياتها" إلى هذا التفاهم بقوله: "إن النبي العربي قطع عهدا للشعوب السريانية بالمحافظة على حرمة جميع المراكز الدينية وإعفائها من الجزية إذا اجتاح تلك البلاد".
وقد احتفظ السريان الشرقيين بوثيقة العهد التي قطعها لهم الرسول العربي في أديرتهم حتى الحرب العالمية الأولى. وجاء في تاريخ الأدب السرياني "إن ايشوعهيب الثاني قام بنشاط عظيم عندما حاصر المسلمون بابل ووقع على شروط الصلح لتكون منطقة بابل لصالح المسيحيين وجدد وثيقة العهد عمر بن الخطاب، كما يتطرق ابن العبري أيضا في كتابه تاريخ الكنيسة إلى هذه الوثيقة، ويذكر المطران يوحنا دولباني في تاريخ دير مار كبرييل "في عام 640 قدم عياض بن غنم إلى آمد ونصيبين وطور عبدين ومارين فدخلها صلحا بدون حرب وقد أعطاهم مار كبرييل مطران طور عبدين طريقا وساعدهم ثم زار في الجزيرة أميرهم واخذ عهدا وبراءة بتوقيع أميرهم وعلى الأرجح هو عمر بن الخطاب، بمنحهم حرية إقامة الشعائر الدينية والاحتفالات وترميم الكنائس والأديرة وإعفائها من الجزية وتعهد بحماية ديارهم، إلا أن بعض الحكام المسلمين بدؤوا بمضايقة السريان بالضرائب والإكثار من الجزية وبالأخص في عهد أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي.
"ففي بداية القرن التاسع الميلادي اصطدم معهم ديونوسيوس التلمحري مرات عديدة".
وقد اقتصر دور السريان الاجتماعي والثقافي في بداية عهد الإسلام على الأمور الدينية فقط، بل إن نشاطهم الاجتماعي والثقافي والأدبي والعلمي برز بشكل خاص بنهاية العصر العباسي، "إن علماء السريان وأدبائهم على اختلاف مذاهبهم قضوا اكثر من مائة عام في ترجمة العلوم القديمة من السريانية واليونانية والفارسية إلى العربية وبفضل جهودهم وأوضاعهم العلمية والثقافية جعل السريان من الشرق منارة وضاءة كانت أساسا للمدنية الغربية الحالية، وازدهر الشرق مدة ثلاثة قرون بمدنية ناضرة 650-950 م".
وقد استعان العرب المسلمون بالسريان وبالأخص الشرقيين مثل سمعان بن الطباخين وغيره في ترتيب أمور الدولة وتنظيم الأجهزة الإدارية وتنظيم الحياة الاجتماعية والثقافية والعلمية ومن اشهر علماء السريان الذين أتحفوا الإنسانية بعلومهم حنين بن اسحق وأبي بشير ويوحنا بن جلاد ويحيى بن عدي والكندي وآل بختيشوع وغيرهم، الذين ألفوا وترجموا ونقلوا مختلف العلوم من طبية وفلكية وعلمية ومن اللغات السريانية واليونانية والفارسية إلى اللغة العربية أتحفوا المكتبة العباسية بمصنفاتهم وعلومهم، ولم يدم هذا الازدهار الثقافي بسبب فقدان العرب السلطة وسيطرة الأجانب عليهم وحتى بيت الحكمة (المكتبة العباسية) كان يديرها السريان الشرقيين وان وظيفة طبيب الخليفة كان يشغل دائما من قبل طبيب سرياني.
وقد كان لتدهور سلطة الدولة العربية الإسلامية وغزو التتار والمغول لبلاد الرافدين دور كبير في اضطهاد السريان أحفاد الآشوريين والبابليين والآراميين عامة، وقد عانوا الأمرين من جراء الظلم والاضطهاد والتدمير وتخريب الأديرة وحرق المصنفات والكتب الدينية والتاريخية، وبالرغم من اضطراب حبل الأمن في مناطق سكنى السريان أحفاد الدولة الآشورية فقد ظهر بعض العلماء المشهورين من أمثال يوحنا المعدني وميخائيل الكبير وأبي الفرج ابن العبري وموسى بن كيفا ويعقوب ابن الصليبي والقرداحي وعبد يشوع الصوباوي والرهاوي المجهول وداود الفينيقي وغيرهم، وقد كان لهم دور كبير في نشر الثقافات الأدبية والفلسفية وعلوم الطب والرياضيات والهندسة وغيرها، وقد نشر هؤلاء مختلف الكتب والمقالات الدينية والفلسفية التي كان لها دور كبير في نمو الوعي الفكري في عصر الظلمات والتخلف والجهل الذي نشرته الشعوب الغازية التي دمرت معالم الحضارة في الشرق بالكامل تقريبا، وهكذا بنهاية القرن الخامس عشر يخفت نور العلم والأدب عند السريان في الشرق بعد أن حل بدل لغتهم السريانية الأدبية اللغة العربية لغة الفاتحين الجدد، ولكونها لغة حكام الدولة ولغة الدين الجديد، بعد أن بقيت هي اللغة العلمية والأدبية في الشرق لأكثر من ألفي سنة متتالية.
ـ السريان منذ بداية الخلافة العثمانية وحتى بداية الحرب الكونية الأولى:
تعتبر فترة الاحتلال العثماني وما تبعها منذ عام 1515م مرحلة حرجة بالنسبة لأبناء الرافدين عامة ولأبناء الكنائس السريانية خاصة، فقد تميزت الفترة بالاضطرابات والمضايقات الدينية العنيفة وتأليب الاقليات القومية بعضها ضد بعض ونشر الفتن القلاقل فيما بينها، ولان الفكرة الاستعمارية الأوروبية نهضت من جديد باتجاه الشرق، ولكن بأساليب وطرق جديدة تختلف عن السابق، وبالأخص فان الدولة العثمانية كانت دولة متخلفة من جميع النواحي فتلاعبت بها سياسة الدول الأوروبية وتضاربت المصالح الاستعمارية لهذه الدول في تركة الرجل المريض، وهي من جهتها بدأت تزيد المضايقة على السريان الذين يعتنقون العقيدة المسيحية المشابهة لعقيدة هذه الدول وكان من جراء هذا الاضطهادات والمضايقات أن اسلم قسم كبير من السريان وبالأخص في طور عبدين حيث اعتنق الإسلام حوالي عشرة الاف شخص دفعة واحدة وهم المحلمية، وهي منطقة تقع بين ماردين ومذياد وكان ذلك عام 1609م ويظن البعض المؤرخين أن ذلك تم عام 1583م، "حوالي سنة 1609م (ويظن في سنة1583م) كثرت المظالم والمضايقات على المسيحيين من قبل الحكام الأتراك الظالمين، اضطرت قبائل المحلمية، ومنها استل والراشدية والكاشية وصورا والاحمدي ورشمل وقبالا ولاشيتية فاعتنقت الإسلام تخلصا من الظلم".
وان كانت الأحداث التاريخية التي مر بها السريان قاطبة غير مدونة بشكل كامل وذلك لكثرة الاضطهادات والمآسي التي عانوها أو أن ما دون منها اتلف واحرق بسبب المحن التي ألمت بهم خلال هذه الفترة، وكما قلنا فقد سال لعاب الاستعمار الأوروبي من اجل نهب خيرات وثروات الشرق فحاول بشتى الوسائل أن يجد له موطئ قدم في هذه المنطقة، فكان أن أرسل المبشرين منذ عام 1550م ليبشروا بمذاهبهم المختلفة، فكان لكل دولة مبشريها المختصين بها حيث كانوا يحصلون أيضا على فرمانات من الحكومة العثمانية تسمح لهم بنشر مبادئهم الدينية بين المسيحيين ضمن سلطاتها فكانوا يمارسون كافة وسائل الترغيب والترهيب بحجة العودة إلى الدين الصحيح، وللعلم فان هؤلاء المبشرين لم ينشروا مذاهبهم تلك إلا بين المسيحيين فقط أي انهم لم يفكروا بإهداء غير المسيحيين لهذه المبادئ القويمة التي يدعون لها، فكان أن تحولت هذه المذاهب الدينية إلى بسمار جحا فكان كلما رأت إحدى الدول الأوروبية إن مصلحتها الاستعمارية تضررت في الشرق كانت تتدخل بحجة حماية المسيحيين التابعين لها (أي المنتمين إلى مذهبها الديني). وبالطبع فان هذا كان يخلق ردود أفعال عكسية لدى شعوب المنطقة ضد المسيحيين ومن قبل الدولة العثمانية أيضا وكانوا يدفعون ثمن السياسة اللاإنسانية التي كانت تتبعها الدول الاستعمارية الأوروبية باتجاه الشرق، دون ذنب إلا لكونهم من دين تلك الدول، ليس هذا فقط بل انه في كثير من الأحيان كان يلجا بعض المبشرين إلى نشر الفتن وتأليب الأكراد ضد المسيحيين الذين لا يقبلون بمذهبهم الديني للضغط عليهم أو إرغامهم للجوء لطلب مساعدتهم ولقبول مذهبهم الديني وهذا ما حصل في عدة مناطق وبالأخص في هيكاري واورميا.
"وقد قام المبشرون الكاثوليك بشتى الوسائل لتحقيق غاياتهم فكانوا يشترون ذمم البيكات الأتراك والشيوخ الأكراد لكي يقوم هؤلاء بتحطيم ومحو الآثار الآشورية من معابد وكنائس في مناطقهم".
ولم تقف المآسي التي عاناها السريان عند هذا الحد فقط بل إن ما زاد الطين بلة أيضا انقسام المذاهب الدينية أيضا إلى عدة أقسام، فانقسم السريان الشرقيون (النساطرة) وكذلك السريان الغربيون (اليعاقبة) وكذلك السريان الملكيون، فانقسمت الأمة إلى ملل متفرقة، هذا عدا المذاهب البروتستنتية للمبشرين الأمريكان التي جاءت بعدئذ لتزيد الانقسام والتجزئة فيما بينها من جديد "لم تقف المصيبة عند هذا الحد بل توارثتها الأجيال التالية حتى استفحل في الجيلين السادس عشر والسابع عشر عندما انتظر السريان النساطرة إلى آشوريين وكلدان، وانقسم السريان اليعاقبة إلى سريان أرثوذكس وسريان كاثوليك، وانقسم السريان الملكيون إلى روم أرثوذكس وروم كاثوليك ". ومنذ تلك الفترة حاولت كل ملة أن تنفرد بتسميتها الخاصة دينيا، حتى إن هذه التسمية أخذت اتجاها قوميا خاصا، فتناسى الآشوريون السريان التسمية الأصلية وهي الآشورية، والسريانية التي اشتقت منها كتسمية لبقايا أبناء هذه الحضارة، بل أن كل فئة بدأت تأخذ تسميتها على أساس مذهبي ديني حتى طائفة السريان الشرقيين التي اتخذت التسمية (الآشورية) الصحيحة كانت تنظر إليها من زاوية مذهبية دينية بحتة وقد تبعتها في نهاية القرنين الثامن والتاسع عشر البعثات التبشيرية الأمريكية والانكليانية والكنيسة السلافية الروسية، وقد حاول هؤلاء الوصول بأقرب الطرق إلى قلوب الآشوريين فتبنوا اللهجة العامية (السوادايا) وطبعوا بها مطبوعاتهم ومنشوراتهم وحتى الانكليكان في بداية القرن التاسع عشر انشأوا مطبعة في إيران تطبع الكتب بلهجة السوادايا، ويقول ماتفيف في كتابه: لقد صدر اكثر من 110 ألف مطبوع دعائي باللغة الآشورية (السوادايا) خلال اقل من 40 عاما، ومنذ عام 1837م وحتى عام 1873م صدر في إيران 110ألف مطبوع دعائي باللغة الآشورية وفي عام1851م اصدر المبشرون مجلة زاريري دبهرا (أشعة النور).
ولم تحقق البعثات التبشيرية الأوروبية نجاحا كبيرا في مناطق طور عبدين لم يتقبلوا هذه المذاهب الجديدة وبالأخص في القرى عدا عدد قليل في ماردين ومذيات ويقول الأب اسحق أرملة أن عدد الكلدان ويقصد بهم الكاثوليك لم يكن يتجاوز 1700 شخص في طور عبدين كلها "ومطرانهم يرعى الكلدان الموجودين في نصيبين ومذيات وكفرجوزة وويران شهر ويبلغ عددهم 1700 نسمة".
أما السريان الكاثوليك فان عددهم كان ضئيلا جدا وقد اتحد بعضهم دينيا مع الأرمن الكاثوليك وآخرون مع الكلدان، ولم تحقق البعثات الكاثوليكية كما قلنا نجاحا يذكر وذلك بسبب عناد بطاركة السريان وسيطرتهم الكاملة على أبناء كنيستهم بالرغم من الخلافات التي عرفتها هذه الكنيسة فيما بينهم والتي كانت سببا في انضمام ما انضم من أبنائها إلى المذاهب الكاثوليكية والبروتستنتية فيما بعد.
ولم ينشر المبشرين الأوروبيين مدارس ومطبوعات كما فعلوا في إيران واوروميا وهيكاري، لذا كان تأثيرهم طفيفا جدا في هذه المناطق وقد مر المسيحيون عموما والسريان خصوصا في طور عبدين وامد بمآس كبيرة عام 1895م، إذ نشبت الاضطهادات ضد الأرمن في أرمينيا ومن هناك انتقلت بسرعة إلى طور عبدين وما جاورها فكانت فرصة اغتنمها البيكاوات الأتراك وزعماء العشائر الأكراد في المنطقة من اجل النهب والسلب والتدمير والقتل، فقد امتدت هذه الأحداث إلى ديار بكر وقراها السعدية وميافرقين وقره باش وقطربل ثم انتقلت المذابح إلى الرها وتل أرمن والكولية (القصور) وبنابيل وقلعة المرآة والمنصورية ودير الزعفران وماردين وويران شهر وديركة ونصيبين ومذيات وما جاورها...، إلا انهم لم يتمكنوا من تحقيق مآربهم وبالأخص في المناطق الأخيرة حيث لاقى السريان مساعدة في حدود نصيبين من الشيخ عبد الرحمن شيخ قبيلة طي الذي هزم زعماء الأكراد في نصيبين ويقول المؤلف "انهم وصلوا إلى مذيات يوم الأربعاء 20 تشرين الثاني فهب الأهالي والجنود لمحاربتهم فخابت آمالهم".
إن مجمل الأحداث والنكبات التي ألمت ببلاد الرافدين والتي عانى منها أحفاد الآشوريين بمختلف طوائفهم لم تفسح لهم المجال لنمو ونشوء الوعي الثقافي أو إنشاء مدارس وأكاديميات علمية إلا أنها خلقت شعورا بالمرارة والألم وإحساسا بالمصير المشترك لهم جميعا سواء أكانوا ينتمون إلى المذاهب والطوائف الآشورية أو الكلدانية أو السريانية الأرثوذكسية أو السريان الكاثوليك وبدا يتطور نوعا ما لديهم الإحساس بالشعور القومي و بالأخص بعد أن زادت علاقاتهم بالثقافة الأوربية وما لاحظوه من نمو الوعي القومي فيها.